إصداراتنامراجعات كتب

قراءة في كتاب المنظومات التربوية العربية والتحدي المعرفي مداخل للنقد والاستشراف[1]

مراجعة زكرياء عريف

يقدم كتاب المنظومات التربوية العربية والتحدي المعرفي مداخل للنقد والاستشراف(218 صفحة) للباحث في سوسيولوجيا التربية رشيد جرموني[1] رؤية تحليلية نقدية استشرافيةلواقع المنظومات التربوية العربية،وقد وقع اختيارنا على هذا الكتاب بالنظر إلى مجموعة من الاعتبارات، نذكر منها:

  • مركزية الحقل التربوي في التحول المعرفي والإصلاح التنموي الذي تنشده أقطارنا العربية.
  • الرؤية التكاملية التي يقترحها الكتاب في مقاربته للمنظومات التربوية بعيدا عن منطق الاختزال والتجزيء السائد في العديد من الدراسات التربوية.
  • المقاربة المنهجية المعتمدة في الكتاب والتي تجمع بين التشخيص والنقد والاستشراف والتي تمتح من حقلين في علم الاجتماع وهما: علم اجتماع التربية وعلم اجتماع المناهج، فضلا عن انطلاق الكاتب من تحليلاته وملاحظاته النقدية من مجموعة من التقارير الميدانية الدولية والعربية مثل تقارير البنك الدولي ومنظمة الشفافية العالمية وتقرير المعرفة العربي؛ ما جعل خلاصات الكتاب تبتعد عن التحيزاتوالانطباعات الذاتية إلى حد ما في ظل صعوبة الموضوعية العلمية المطلقة في الدراسات الاجتماعية.

ينطلق الكاتب أولا من فرضية مركزية محاولا إثباتها في متن كتابه وهي: “أن فشل منظومات التربية والتكوين في المنطقة، ليس مرده إلى ضعف الإمكانيات المالية واللوجستيكية والموارد البشرية اللازمة، بقدر ما يعود  إلى غياب رؤية تنموية واضحة المعالم والآفاق“، انطلاقا من ذلك، فإن صاحب الكتاب يحاول الابتعاد عن التشخيص الاختزالي لأزمة المنظومات التربوية العربية إلى النقد الجذري لها، وهذا ما سيتضح جليا في فصول الكتاب الخمسة؛ ابتداء من الفصل الأول الموسوم ب”في تشخيص بعض مظاهر أزمة المنظومات التربوية العربية، بين النزعة الاختزالية والرؤية النقدية“؛ بحيث يكشف المؤلف عن الطبيعة المركبة للأزمة التربوية بالوطن العربي التي تتحكم في إنتاجها طبيعة الاختيارات التنموية والتوجهات السياسية الكبرى، ولا يمكن اختزال أسبابها في عوامل جزئية، وقد ذكر الباحث عددا من مظاهر هذه الأزمة البنيوية مسترشدا بأرقام ومؤشرا إحصائية، ومنها: الفشل في تعميم التمدرس في كافة المستويات،ضعف المعارف الأساسية لدى المتعلمين، ضعف الحكامة التربوية رغم ارتفاع الميزانيات المرصودة للتعليم في البلدان العربية، لا تكافؤ الفرص في التعليم، التصنيف المتدني للجامعات العربية دوليا، ضعف الأداء التربوي للمدرسين. لكن، لا يمكن فهم هذه المظاهر- بحسب وجهة نظر الباحث جرموني- بدون الرجوع إلى العامل السوسيو- سياسي المتعلق بطبيعة الاختيارات التنموية الإستراتيجية التي تتحكم في نتائج ومخرجات المنظومة التعليمية؛ وما يؤكد وجهة نظر الكاتب – في نظرنا- هو  تغليب أغلب المنظومات التربوية العربية لمنطق الكم (تضخيم أرقام النجاح بغرض الاستفادة من المنح والقروض) على منطق الكيف، أي الجودة في المخرجات، الأمر الذي ينعكس على  جودة التعليم سلبا من حيث الاعتماد على سبيل المثال على المقاربات البيداغوجية التي يطغى عليها التلقين والحفظ بدل الإبداع والتفكير النقدي، وهذا ما يقودنا إلى التساؤل حول طبيعة المناهج الدراسية المعتمدة في المدارس العربية؟، وهو ما يجيب عنه الكاتب في الفصل الثاني:”في سوسيولوجيا المناهج وقفة نظرية وتشخيصية مع المناهج الدراسية بالمنظومات التربوية العربية“، بحيث يبرز نقطتين أساسيتين بصدد محتوى المناهج العربية، أولاهما: غياب التفكير النقدي والإبداع في المناهج التربوية العربية؛ إذ أن الغلبة تكون لمنطق الحفظ والتلقين بدل تحفيز المتعلمين على الإبداع والتفكير النقدي. وثانيهما: منهجية تدريس الدين في الوطن العربي، في هذا الإطار قام المؤلف بدراسة بعض المقررات الدراسية في بلدين عربيين وهما: (السعودية والمغرب)، معتبرا أن إشكالية تدريس الدين بالمدرسة العربية تعد أهم الإشكالات المزمنة التي تؤثر على المخرجات القيمية والثقافية في المنظومة التربوية بل التنموية بشكل عام.

   إن ما يطرحه الباحث في هذا الشأن يستحق التمعن بالنظر لما ينطوي عليه الدين في الفضاء  العام العربي من مكانة بارزة وسلطة مرجعية، منتجة للتصورات والأفكار والقيم؛ لكن ليس دائما ما يُقدم باسمه هو صحيح لأن ثمة فرقا بين الدين والتدين؛ باعتبار أن هذا الأخير هو ممارسات وتصورات تستمد مشروعيتها من الدين في إطار نوع من الفهم والتأويل البشري – النسبي- ، لكن البعض يريد أن يصبغ على تدينه نوعا من القداسة والإطلاق، خصوصا عند الرغبة في تحويل رؤية دينية معينة إلى مناهج ومقررات دراسية تؤثر بالنتيجة  في المتعلمين تصورا وسلوكا، لذلك ينتقد “جرموني” منهجية تدريس الدين في السياق العربي خصوصا في المملكة العربية السعودية والمغرب معتمدا في ذلك على تفحصه وتحليله لبعض المقررات الدراسية في كلا البلدين، فانطلاقا من فحصه لأحد مقررات العلوم الإسلامية بالمملكة العربية السعودية رأى أن بعض دروسه  تؤدي إلى تغذية التطرف كتحريم التماثيل ووجوب قتال “المشركين” رغم سعي المملكة العربية السعودية إلى إصلاح وتجديد خطابها الديني وفق رؤية 2030، أما بالنسبة للمدرسة المغربية فإن الباحث توقف عند بعض مقررات مادة التربية الإسلامية في السلك الإعدادي والتي يغيب في بعض دروسها- بحسب رؤيته- الحس النقدي في بناء العقيدة  والتدريس الجامد للعبادات بدون تحريك ذهن المتعلمين في محاولة استفزازهم إلىى التفكير في معاني هذه الطقوس، كما انتقد طريقة تصريف قيم التعايش والتسامح معتبرا أنها تعتمد مقاربة تقليدية تنطلق من نصوص دينية متواترة، بينما تعليم هذه القيم  يحتاج إلى تجديد الرؤية البيداغوجية عبر مدخل التعدد الثقافي والقيمي.

    أما في الفصل الثالث فإن الباحث يتوقف عند “تجليات ومستتبعات الأزمة التربوية على النسيج المجتمعي والمعرفي والقيمي“وفي صلب ذلك التحولات القيمية التي يشهدها السياق الراهن وتأثيراته على المدرسة والجامعة العربية؛ فقد رصد الباحث تراجع دور المؤسسات التعليمية في إنتاج وإعادة إنتاج القيم المجتمعية، منذرا بأزمة غياب “المرجعيات”، مؤكدا فكرته برصده لشيوع مظاهر العنف في الوسطين المدرسي والجامعي ووجود حالة من الإحباط العام السيكولوجي المدمر والذي من نتائجه تعاطي المخدرات والكحول والتدخين.

   كما يلفت الباحث النظر إلى مظهر آخر من مظاهر الأزمة التربوية وهو واقع البحث العلمي الذي يطبعه ما سماه ب”التصحر المعرفي“، والذي تتعدد تجلياته ومنها غياب الجماعة العلمية، وتهميش الباحثين وعدم إشراكهم في السياسات العمومية، ويرجع الباحث سبب هذا التصحر المعرفي إلى إجهاض المشروع التنموي والارتهان إلى المشاريع الأجنبية بدون وعي نقدي.

   لينتقل بعد ذلك الجرموني إلى تشريح العوامل التي أدت إلى هذه الوضعية المتردية وهو موضوع الفصل الرابع:”في رصد بعض العوامل والأسباب المغذية لاستمرار  تأزم المنظومات التربوية العربية” والتي تتوزع إلى ثلاثة مستويات في مقدمتها العوامل السوسيو-سياسية باعتبارها المدخل الأساس لنجاح العملية التنموية وفي قلبها المجال التعليمي/ التربوي، فأحد الأسباب الرئيسة للفشل التربوي هو سياسات الدول في هذا المجال في ظل نسق التسلط والاستبداد المهيمن على أغلب البلدان العربية وغياب مناخ الحريات الأكاديمية وهيمنة النماذج التربوية الغربية. وثاني العوامل هو العوامل السوسيو- ثقافية والمرتبطة أساسا بالتمثلات السلبية  التي أصبحت عند فئات المجتمع ووسائل الإعلام تجاه المدرسة العمومية، ثم أخيرا العوامل السوسيو-تنموية المتعلقة -كما يرى الباحث- بنظرتنا للتنمية هل هي نموذج يستورد أم أنها إبداع واجتهاد مجتمعي ينطلق من الذات ويعود إليها، منـتقدا طبيعة تصوراتنا للتنمية والذي يتم اختزالها في ما هو تقني إجرائي، في حين أن التنمية بمفهومها الشامل بما في ذلك تنمية التعليم والنهوض بالبحث العلمي ينبغي أن تنبثق من رؤية فلسفية وتقاليد علمية وطنية تشجع البحث الأساسي النظري.

    ختاما يقترح رشيد جرموني في الفصل الخامس بعض “مداخل الإصلاح  التربوي” التي تتجاوز التحديات الآنية وتستشرف الرهانات المستقبلية، وهي المدخل القيمي الفكري الفلسفي، بمعنى الإطار المرجعي أو النموذج المعرفي الذي ينطلق منه الإصلاح التربوي والذي ينبغي أن يكون أصيلا ومتجددا في الآن نفسهمن خلال الاجتهاد في إبداع صيغة توافقية بين القيم الكونية والقيم الدينية الإسلامية وهو ما سمه ب” القيم التثويرية التي تؤهل المدرسة والمجتمع”، وثانيا المدخل الاقتصادي والسياسي عبر ربط التربية والتكوين بالاقتصاد المنتج وتوطين المعرفة بدل استيرادها بشكل جاهز، وثالثا المدخل البيداغوجي من خلال اجتهاد خبراء التربية في إبداع نموذج تربوي أصيل ومواكب لروح العصر وتأسيس مراكز البحث والتفكير التي تهتم بإعداد الأبحاث والدراسات المقارنة وتجديد العدة البيداغوجية، ورابعا المدخل التنظيمي والإداري من خلال صياغة قوانين مرنة ومواكبة للتحولات وأخيرا المدخل السوسيوإجتماعي عبر ضمان تكافؤ الفرص وتعزيز دور المدرسة في الارتقاء الاجتماعي.

  تأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن ما طرحه الباحث في علم الاجتماع رشيد جرموني من أفكار وتصورات بصدد المنظومات التربوية العربية يشكل رؤية متكاملة  خصوصا من ناحية البدائل التي اقترحها لإصلاح المنظومات التربوية العربية مع استحضار أن لكل بلد عربي سياقه الخاص وأولوياته وإمكاناته، أما بالنسبة  للتشخيص فرغم الحذر المنهجي الذي أبداه  الباحث في كتابه واعتماده على تقارير ميدانية مرجعية، فيبقى تشخيص المنظومة التربوية العربية ككل يحتاج إلى دراسات مسحية شاملة تضطلع بها مراكز بحث علمي متخصصة وليس جهد فردي يقتصر على بعض النماذج المحدودة .


[1] أستاذ علم الاجتماع بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب، عضو الجمعية الدولية لعلماء الاجتماع، مدريد/ إسبانيا، عضو المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، بيروت/ لبنان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
error: Content is protected !!